رجل من زمن الحـزن
[صبيحة هذا اليوم البارد جداً، أستيقظ باكرا لأتسكع في غربتي. وحيدة أنا..أنثر همومي على الأرصفة، أخط تفاصيل جديدة على صفحات زمني، تفاصيل تافهة! وأمضي..
أشعر أن رحلتي ليست موفقة تماما، مع أنني أحببت سحر المدينة وصمتها..
بدونه روحي خواء.. بيداء يفزعني الإنزاء فيها..
.. لكم أشتاقه..
أراه الآن بوضوح. أتفرس في وجهه الغاضب يرقبني وهو يهم بالرحيل. من أعلى هذه الجزيرة، ألمح قاربا يزحف ببطء، أشعر أنني مثله، فرق طفيف بيننا..هو يعرف مرساه، أما أنا فأمخر العباب بلا وجهة محددة !
الآن لما عبرت كل هذه المسافات، هربا من شيء لا أعرفه، أدركت أنه معادلة صعبة في حياتي ...
ما أتعسني! وما أضعفني أمام قرار الحب أو اللاّ حب!!
ألعن أساطير الأولين، فمنها ولد وجاءني بالخوف من أشياء لا وجود لها إلا في مخيلته..
أجوب الشوارع والأحياء على غير هدى، تاركة العنان لقدماي تقوداني أنّى شاءتا. الشمس وحدها ترافق جنوني.. ألمّ بي الجوع والتعب، دلفت إلى مطعم بائس، حيث أحاطتني نظرات الزبناء بفضول غريب. يأتيني النادل مبتسما ليقدم إلي قائمة الطعام.. أحس بغتةً أنني قطعة غير متجانسة مع هذه الفسيفساء البشرية، أنا التي تُطوّقني الغربة وسط من يفترض أنهم أهلي!
اقترحت على النادل طبقا من الرُّوبيان المشوي، والسلطة الخضراء، ثم تظاهرت بمتابعة نشرة الأخبار على الشاشة المعلقة عند الزاوية، لم أعد أذكر شيئا مما قالته تلك المذيعة، كانت مزينة بشكل يدعو إلى الاعتقاد أنها ستغادر استديو الأخبار لحضور سهرة!
جاء النادل بعدما كدت أيأس من عودته، يضع الطبقين على المائدة ويسألني:
- سورية أنت؟
أجيب.
- لا.
يواصل بنبرة المتأكد:
- تونسية، لهجتك تقول ذلك..
شعرت بالضيق وأعطيته جوابا للتمويه.
- كدت تصيب.. جزائرية!
- جزائرية تونسية مغربية، زَيْ بَعْضُو، جماعة المغرب العربي أهْلِنا وحَبايبْنا..
يصمت قليلا وينهال علي بسؤال أكثر فضولا من سابقه:
- هل جئت إلى هنا بمفردك؟
ينفد صبري، أرد بطريقة لبقة تدعوه إلى الكف عن طرح الأسئلة البلهاء.
- أجل. من فضلك، نسيت أن تحضر لي الماء!!
ينحني بامتعاض:
- حاضرْ يا ستّي.
أوشكت أن أصرخ في وجهه:
- جئتكم من وطن يعيش بهويتين، وطن قالوا إنه مثل شجرة، أغصانها في أوربا وجذورها إفريقية حتى النخاع. فلا داعي لأن تفرضوا علي نواميسكم البالية.
لست أدري لم وجدت أكلي بلا طعم ولا رائحة. التهمته في عجالة حتى أهرب من عشرات الأسئلة التي كانت تتحرش بي في صمت. دفعت ما بدمتي للنادل، هذا الرجل الذي تشي سحنته السمراء بأصوله النُّوبيّة، ثم تركت المكان، وأقسمت أن أعوض وجباتي بأكياس "التْشيبسْ" والدُّرة!
ناحية النهر، ألقيت بجسدي المنهك على أريكة إسمنتية. أنا والحزن. تائهان في ضياع الأيام، نقتفي أثر الفجيعة. ونبكي حسرتنا.
عبث سفري.. جئت هنا لأمحوه من صفحاتي.. لم أودعه، لم أحدد له وجهتي.. وأجدني أشتاق لأدفن رأسي في حضنه وأنا أستعيد تفاصيل شجارنا:
- كم أحتاج من الوقت لأقنعك بأنني لست كما رسمت مخيلتك ؟ ألم تدرك بعد أن طريقتك في التفكير تصلح لأن تعرض في متحف!
- لاحظي أنك تُصرّين على استفزازي.
أتراجع قليلا إلى الخلف تاركة له طرف الحديث:
- لست ضد أفكارك، يسعدني أن أحب امرأة مثلك، لكن..
أقاطعه:
- لكن ماذا؟!
يواصل متجاهلا غضبي:
- أنت تتمادين. صعب استيعاب كل هذا التّمرّد والجرأة فيك، لم تعودي حرة كما كنت، في حياتك الآن رجل..
أعلق بلهجة ساخرة:
- أحقاً؟ كدت أنسى! ماذا تريد مني إذن ؟ أن أدع سفينة قدري لرياح نزواتك.
تعلو وجهه سحابة غضب:
- أنت امرأة أتفهمين؟
كانت كلماته كما الزلزال. قلبت موازيني:
- أنوثتي لا تعني أن تحدد أنت مصيري، أن تعبث بحياتي كما يحلو لك.
سحب نفسه من الأريكة. أطفأ عقب سيجارته في منفضة صدري، ثم غادر دون أن يقول شيئا، وكأنه يصفق باب الماضي إلى الأبد..
أتذكر صديقة كانت دوما تقول لي: داخل كل رجل يقبع شهريار.. يريد أن تكتب نهايته على يد امرأة ذكية جدا، تلك شهرزاده بالتأكيد!!
- لن أكون مثلها، لا أريد أن أبدأ قصة حب بحرب أوقن فيها بهزيمتي.
- من قال لك أنك ستهزمين، الحب معركة، والمعركة مكيدة.
- عجبا! أيمكن أن يكون هذا الإحساس النبيل مرادفا لأفعال ليست بريئة كما تدّعين؟!
- هي سُنّة الحياة. لك الاختيار، الاحتفاظ بالرجل الذي تحبين، أو..
- أو يتركني لأنني أرفض لعبة القط والفأر في علاقتنا، آسفة.. لا أرغب في رجل مثله.
تبتسم ساخرة:
- وهل يوجد من يفكر بطريقة مختلفة؟
- لم لا؟
- واهمة.. لن تنالي أبدا رجلا بهذه الطريقة..
على طرفي النقيض، صديقتي الأخرى، تؤمن بأن الحب حدث استثنائي في حياتنا. فحين يطرق باب قلوبنا، علينا أن نعيشه لحظة بلحظة، ألا نقيده بشيء. فقط نتركه يروض شراسة الأقدار.
صديقتي تؤمن بأن شهرزاد لم ولن تكون أبدا مرجعا في الحب، لأنها ببساطة، ولدت في غياهب أسطورة، في زمن ليس لنا بالتّأكيد. صديقتي تقول:
شهرزاد لا تستطيع أن تبادر وتعترف بالحب لرجل أذْهلها، ستنتظر أبد الدهر وتفعل المستحيل من أجل أن يكون هو البادئ، أما أنا فلا. شهرزاد ترفض أن تترك الحب على سجيّته، تنتظر يوم تنجو من قتل شهريار، تقامر بزهرة عمرها، قد يحبها وقد ينال منها ما ماطلت فيه طويلا، ثم ينقلب إلى أخرى..أما أنا فأرفض رجلا نقطة البدء والانتهاء عنده أسفل حزام امرأة!! أريد رجلا أبدأ معه الحب لا معركة يختبر فيها كل منا قوته..
شهرزاد امرأة جبانة بكل المقاييس!
هذا هو شعار صديقتي.
تتنازعني الفكرتان، أو الأحرى الصديقتان! أيهما أصدق؟ أيهما أصح؟ أبدأ في جلد نفسي بأسئلة الندم، هل كان من المجدي أن أتسرع في قرار انفصالنا؟ هل بوسعي أن أجد حبيبا مثله.. صبورا وحنونا رغم كل شيء؟!
أنتبه لمتسول يقف إلى جانبي، أمد يد إلى حقيبتي وأناوله بعض النقود، وأعود لأبحث في أعماقي عن مخرج لنفق تعاستي.
لقد أصبحت كائنا خارج الزمان والمكان. ساعتي اليدوية لم تعد تعنيني.
ها هي ذي الشمس تتوارى خلف الجبل المنتصب أمامي بتحد، توَدعني وتعدني بيوم أكثر ألما. اكتشفت أن عمر الأحزان أيضا قصير، لما يشغلنا شيء على قدر من الأهمية، والمأساة !!
يشدني منظر الغروب. كم هو رائع رحيل الشمس عن هذا العالم، لمسات الشفق تجعل من أديم السماء لوحة ببهاء ساحر، مشهد يحرك الحنين إلى شيء مبهم .. أستغرب كيف يمكن أن يكون الرحيل جميلا.. أنا التي أخشاه..
ها أنا أرى طيفه، يتماهى مع شعاع الشمس، يخبو معه شيئا فشيئا، بل هوذا يقف أمامي تماما، وكأنه يتعقبني، أركض منه مهرولة..أحاول تجاهل تلك اللحظات التي جمعتنا، الهنيهات الوحيدة التي كنت أشعر فيها بأنني بطلة في "معركتنا" الخرقاء..
أراه يحضنني بين ذراعيه.. طفلة أنا.. حراراة أنفاسه تتسلل إلي بلا استئذان، توقظ تلك الأحاسيس الرائعة، وحده يدرك هذا الضياع في أمواجه المتقلبة، وحده يعرف أنني وهبته الحب في زمن اللاحب.. في خريطة كل شيء فيها قابل للبيع والشراء.
يغمض جفنيه.. أظل أتأمل قسمات وجهه...وأحلم به في يقظتي.
أتراه يحن إلي؟
أيها الحبيب المنفلت دوما من أسئلتي المربكة!
أقرر فجأة العودة من سفري، أشتاق إليه فعلا. سأتصل به بمجرد وصولي وسأطلب لقاءه، حينها سأعتذر له، سأقول له إنني مخطئة، لم أكن أدرك أنني أحبك إلى هذا الحد، والأيام التي أمضيتها بعيدا عنك، برهنت لي أن قلبي لن ينبض لسواك، وحدك تتربع على عرشه ملكا. فلنبدأ من حيث انتهنينا أرجوك، لأنني أحبك..
ينتابني الخوف، تتزاحم الظنون السوداء في رأسي، ماذا لو وجدته اتخذ في غيابي قرارا بالسفر؟ قرارا بمنفى اضطراري؟! فمنذ أمد تراوده فكرة الهجرة. لقد حاول مرارا إقناعي بالسفر معا، وكنت كل ما أثار الموضوع جملت له صورة الوطن، أبحث عن أكثر من مبرر لأثنيه عن عزمه، نجحت في جعله ينسى الأمر، وفشلت في اقتلاع جذور هذه الرغبة من رأسه.
كان يوما ممطرا حين بدأت الطائرة في الهبوط، كنت أتطلع من نافذتها إلى الأشجار الكثيفة، بدت أغصانها متلاحمة، وكأنها تتحدى غضب الرياح التي تهب بعنف. أحسست بحالة فزع غير معهودة لما بدأنا نقترب من أرضية المطار.
كنت مستعجلة بشكل جنوني وأنا أقدم وثائقي في كل مرة إلى رجال الجمارك. أخيرا اجتزت أمكنة التفتيش والتحقق من الهويات. فكرت في الاتصال به لأطمئن على أحواله، أوربما لأستشف من حديثه ما يدل على أنه ما يزال لي. ضغطت أرقام الهاتف دون أن أخطئ أي واحد منها، فأنا أحفظها عن ظهر قلب، كما أحفظ أحوال مزاجه، لما يغضب، لما يكون سعيدا أو منزعجا، لما يشده الحنين إلي..
- ألو..
يجيب صوت نسائي على الطرف الآخر. اضطربت قليلا قبل الرد:
- بْغِيتْ جواد الله يخلّيك، واشْ كَايْنْ.
- سافر البارح لْكندا. شْكُونْ اللّي بْغَاهْ؟
داهمني حزن قاتل، مميت. شعرت بالدوار وكدت أسقط أرضا. دموعي انسابت مثل زخات المطر التي كانت في تلك اللحظة تنفذ إلى الأرض بقوة، وكأنها متأهبة لكل هذا الأسى. لملمت جراحي، وبريق من الأمل يواصل الوميض بداخلي، لأسأل تلك المرأة التي اعتقدت أنها أمه، فلم يسبق لي لقاؤها أو الحديث إليها:
- إمْتى يرجع؟
- مَاشِي قْريبْ يا بنيتي، سافر بَاشْ يستقر ثَمّة.
كان الصوت مثلي.. مجهشا بالبكاء، وددت لو أعانق تلك المرأة لأبكي على صدرها، فكلانا حزين لفراقه. تمنيت لو أرتمي في أحضانها وأقبلها حتى أشتم رائحته، حتى أسرق منها آخر قبلة رسمها على جبينها.
لم رحلت؟ من يضمد جراحي بعدك؟ من يواسي غربتي وينتشلني من براثن الضياع؟ كنت دوما رجل المفاجآت.. رجل من زمن الأحزان..
أقفلت الخط وسحبت حقيبتي، مشيت شاردة الخطى باتجاه القطار، كنت مثل جندي عاد من المعركة مهزوما. تحاصرني غربتي، وعذاب أيامي. يأكلني الندم وتسخر مني الخيبة..