من وحي قلمي
قلم قلب الجبل
قصة قصيرة
شموخ
في إحدى غابات القوقاز و بين أشجار كثيرة طويلة تحجب السماء شاهدتها تختبئ هناك وقد تقوقعت على نفسها تبحث عن الدفء . اقتربت منها بهدوء وأنا أشعر بالدهشة لوجودها في مثل هذا المكان والبرد القارص يلفها ويحتضنها في زمهريره , وتنفسها الدافئ يخرج سحابة بيضاء تخترق الهواء الجاف الذي أمام وجهها , وما أن أحست الفتاة بخطواتي حتى التفتت إلي والذعر في عينيها كانت عينان جميلتان بريئتان لم أرَ مثلهما في حياتي لكن الحزن يملآنها. تقدمت نحوها , فهبت واقفة على ساقيها الرشيقتين , وابتعدت عني مسرعة وشعرها القصير يتطاير مع الهواء . كان ثوبها البني القصير الذي يصل إلى منتصف ساقيها ينبئ بمدى معاناتها غير أنه بدا جميلا بسبب فتاته التي ترتديه . نظرت إلى الرجل الذي خلفي وقلت
" أخفض (الكاميرا) سأحاول اللحاق بها ...اتبعني"
" أمرك آنستي "
ركضت خلف الفتاة وأنا أثبت حقيبتي التي علقتها على كتفي بيدي و لحسن الحظ أني كنت أرتدي بنطالاً واسعاً أسفل معطفي الأسود الطويل والذي يصل حتى ركبتيََّ ومع هذا تعثرت وكدت أن أقع على وجهي غير أني وجدت يدي المصور تساعدني و تساندني . تابعت سيري حتى لم يعد يفصلني عنها الكثير , ولكني فجأة وجدت نفسي أدخل وسط مخيم يملؤه أطفال يشبهون تلك الطفلة البريئة. لقد كانوا بمثل جمالها وبراءتِها لكنها كانت شيء مختلف تماما بنسبة لي . بدأوا ينظرون إلينا وبعضهم قد وقف عن المسير والبعض الآخر ينظر إلينا وهو إما واقف أمام مخيمة الصغير أو جالس هناك يتأملنا بريبة بسبب مظهرنا و وجهينا اللذان يدلان على أننا قادمان من أوربا وتحديدا من انجلترا .
قال الرجل الذي بجانبي
" آنستي يبدو أننا في مخيم للاجئين هل تريدين أن نجري اللقاء الآن؟ "
التفت له بحده وقلت :
"أريد أن أسجل هذا اللقاء مع تلك الفتاة "
هز كتفيه دون أن يفهم
" إن الأطفال هنا كثير! "
" ولكني لا أريد غير تلك الفتاة "
" اسمحي لي آنستي أنا لا أفهمك لماذا تلك الصبية بالذات؟ "
" لأني أراها مختلفة تماما "
" ألأنها كانت وحيده في الغابة؟ "
" إن سمحت لي, إما أن تساعدني في البحث عن الصغيرة أو أرجو ألا تضيع وقتي "
بقينا ننظر حولنا حتى سمعت همس صاحبي في أذني
" انظري إنها هناك تنظر إلينا من خلف تلك الخيمة البالية "
استرقت النظر إليها دون أن تشعر بي وقلت له
" اتبعها ببصرك سأحاول الإمساك بها من الاتجاه المعاكس "
دخلت بين المخيمات وأنا أشعر بنبض قلبي يتصاعد لم يكن خوفا أو ترقبا كان شعور غريب لم أعرف تفسيره حتى الآن . ولأني لم أكن ذات طول واضح كصاحبي فطولي لا يتجاوز 163 سنتيمترا استطعت أن أتسلل و أقترب منها دون أن تلحظ وجودي وما أن أصبحت خلفها اعتدلت في قامتي ومشيت بسكينة لأضع يدي على كتفيها وأقول
" عزيزتي..."
التفتت بحده إليّ وحاولت الهرب لكني استطعت أن أبقي يديها الصغيرتين في يدي دون أن أرعبها وقلت وأنا أبتسم لها
" لا بأس لا تخافي يا طفلتي أنا لست مؤذية "
راودني ذلك الشعور الغريب ثانية جراء نظرة الشك التي في عينيها الرماديتين الواسعتين .كانت نظرة لم أجرؤ على مقاومتها فأشحت بوجهي لصاحبي وأومأت له برأسي ليحضر .
عدت بوجهي لها مرة أخرى وقلت :
"لا تقلقي يا صغيرتي فهذا صديقي إنه لطيف جدا ولن يؤذيك وكل ما نريده منك أن نتكلم معك .. هذا كل شيء "
همست الفتاة ولم تفارق عينيها تلك النظرة الفريدة
" لماذا؟ "
عندها أحسست أني لا أتكلم مع صبية صغيرة بل مع فتاة ناضجة مدركه لما حولها أكثر من الكبار أنفسهم , انحنيت نحوها وأنا أسند يدي على ساقاي وقلت
" لأن هذا هو عملي و لك الخيار إن كنت تريدين الكلام معنا أو لا ؟ "
عندما قلت هذا كان صاحبي قد وقف بجانبي فقلت وأنا أشير لما في يده
" انظري هذه (كاميرا ) أتعرفينها؟ إنها آلة عجيبة يمكنها أن تلتقط المشاهد الحية ثم تعرضها مرة أخرى بصورة حقيقية! وهذا الذي في يدي (مايكروفون) وهو يلتقط أصواتنا والكلام الذي ستقولينه عن حياتك ثم بعد هذا أصافحك هكذا وأقول لك فرصة سعيدة أن التقيت بك . هذا كل شيء فهل نبدأ ؟ "
لم يتغير فيها شيء فقلت وأنا أبتسم لها
" أنت تعلمين أني لن أؤذيك أنه مجرد حديث بسيط "
يبدوا أني نجحت في إقناعها لأن تلك النظرة بدأت تتلاشى وقسمات وجهها الصغير البريء بدأت تلين وتبين مدى رقة ملامحها الناعمة. كانت فتاة فاتنة جدا حتى أني تمنيت لو أني أستطيع أخذها معي والاهتمام بها بعيد عن هذا المكان الخطر و خوفاً عليها من الوحوش البشرية الذين قد يستغلون وضعها. بدأت أتخيلها معي في شقتي حيث الأمان و أنا أهتم بتعليمها ومعيشتها أو أنا أوصلها إلى المدرسة كل صباح قبل الذهاب إلى عملي أو أني أجلس بجانبها على سريرها و أقرأ لها قصة قبل النوم ولكن فجأة قطع خيالي الجامح صوتها الثابت وهي تقول
" حسنا ليس لدي ما يمنعني من الحديث إليك "
تحرك صاحبي الذي قد أصابه الملل والضجر و بدأ يعد الكاميرا ويتأهب استعدادا للعمل . جلست القرفصاء بجانبها حتى أكون في مستوى طولها و وضعت (المايكروفون) أمام وجهي وبدأت بمقدمة إعلامية تقليديه ثم استدرت نحوها وأنا أقول
" هل لك أن تخبرينا باسمك يا عزيزتي؟ "
وجهت بصرها إلى (الكاميرا ) وقالت وعلى وجهها ابتسامة صفراء
" اسمي ... اسمي هو شموخ "
ترددت قليلا وتجمدت يدي على (المايكروفون) وأنا أقول
" صغيرتي هل اسمك فعلا شموخ ؟ "
هزت كتفيها الرشيقين بيأس وقالت
" أنا التي اخترت لنفسي هذا الاسم "
" وما هو اسمك الحقيقي؟ "
" لا أريد أن أتذكره "
لم أشأ أن أركز على اسمها كثيرا فقد كنت مندفعة لأعرف الكثير عن حياتها
" حسنا عزيزتي شموخ لقد اخترت اسماً جميلا جدا. أخبرينا عن والديك أين هما الآن؟ هل هما موجودان معنا في المخيم؟ "
هذه المرة ابتسمت بطريقة لا ترمز إلى السعادة أبدا شعرت أنها ابتسامة تجسد الحزن والألم وهي تقول
" لقد ماتت أمي قبل الحرب فتركني والدي لأني كنت فتاة ولم أكن فتى وأمر رجل بأن يعيدني لأهل أمي الذين رفضوني لأن بينهم وبين والدي عداوة وقالوا أن على والدي أن يعتنيَ بي لأني ابنته " .
ثم سكتت كنت حتى الآن أرى برودا في عينيها عندما نظرت إلي. فقلت مترددة
" ماذا حدث بعد هذا ؟ هل عدت إلى والدك؟ "
كان صوتها لا يزال ثابتا حين قالت
" أعادني الرجل إلى أبي ولكنه رفض الاعتناء بي لأنه لم يكن يراني من مسئوليته "
" ألانك فتاة أم أن هناك سبب آخر ؟ "
" بل لأني فتاة لمجرد أني لست بصبي أنكر وجودي وقال أنه لا يحتاج إلى فتاة في منزله "
" هل كان بينه وبين والدتك مشكلة؟ "
اندفعت تقول وكأنها لا تريد من أحد أن يقطع حديث ذكرياتها المؤلم
"لقد كانا يتشاجران كل يوم أمامي وكان يضربها بوحشية ثم يسحبها من شعرها حتى لو وقعت على الأرض كان يجرها دون رحمة ثم يلقي بها في أحد الغرف القذرة ويقفل عليها الباب "
لم أرغب في أن أعرف ما يجري لها وهي في ذلك المنزل الكئيب وأحسست أني أمشي فوق أرض وعرة ويتطلب مني أن ألزم الحذر حتى أنهي هذا اللقاء معها دون أن أترك أثر للألم الذي في قلبها أن يتسرب لعينيها , قلت لها بلطف
" بعد أن رفضك والدك أين ذهبت؟ "
" أخذني الرجل الذي أتى بي وهو يشتم ويصرخ متذمرا وعندما بدأ الليل هربت منه "
" وأين ذهبت؟ "
" بقيت أمشي حتى خرجت من القرية وابتعدت عنها ثم فجأة سمعت صوتا حادا و ظهر ضوء مشتعل من خلفي فاستدرت ووجدت القرية تحترق و لا يبدو منها إلا ألسنة اللهب. لقد كانت الحرب "
" وكيف وصلت إلى هذا المخيم؟ "
" تمكن بعض الناس من الهرب والتقيت بهم في طريقي ولم يكن أي منا يعرف الأخر وبقيت معهم حتى انضممت إلى هذا المكان "
" ألم تعرفي أي شخص هنا من عائلتك؟ "
هزت كتفيها بلامبالاة وقالت
" أنا لا أهتم لهذا "
" ألا تشعرين بالوحدة؟ "
رمشت بجفنيها لتعيد صفاء عينيها الرماديتين الواسعتين وتجعلانها تلمعان (كالبلور ) وقالت
" لا, أنا لا أشعر بالوحدة "
طرق رأسي سؤال لم أتراجع في طرحه
" هل تتمنين أن تلتقي بوالدك الآن "
أشاحت بوجهها عني فرأيت أهدابها السوداء الطويلة تحجب الظلمة في عينيها ثم عادت ألي بعينيها اللتان حبست دموعها وقالت بصوتها الثابت
" لا أظنه على قيد الحياة "
" أخبريني لو أنك تمكنت من رؤيته مرة أخرى هل ستسامحينه؟ "
بدأت الصبية تتمالك نفسها وهي ترمش بجفنيها مرارا حتى اختفت دموعها ثم قالت
" لا اعلم أنا حقا لا أعلم "
"أليس هناك من شخص في هذا المخيم يعتني بك؟ "
" أنا التي أعتني بنفسي فلست بحاجة لمن يساعدني "
" ولكنك لا زلت صغيرة؟ "
أكتفت بأن هزت كتفيها ونظرت إلي مبتسمة بيأس فقلت
" صغيرتي بما أنه لا يوجد في هذا المكان من له علاقة بك أو يهتم لأمرك فهل تمانعين بان تأتي معي؟ ".
أجابتني بصوت الطفولة البريء دون تردد
" لن أترك أرضي "
" ولكن المكان خطر بنسبة لفتاة في مثل سنك "
" و إن يكن , فأنا لا أستطيع أن أترك أرضي "
" لكن إلى أين يمكنك أن ترحلي ؟ "
" أني أفكر بالبقاء أو أرحل إلى أمي "
تقازمت أمام كلماتها وذلك الإحساس الذي انتابني منذ أن وقعت عيني عليها لا يفارقني فقلت لها وأنا أحاول ختم اللقاء
" هل من كلمة أخيرة تودين قولها يا طفلتي؟ "
هزت رأسها ليتأرجح شعرها الكستنائي الناعم حول كتفيها وقالت
" ليس لدي ما أقوله "
" شكرا لك يا عزيزتي "
وقفت وأنا أمسح بيدي فوق رأسها ولم أعد أهتم بختم اللقاء بطريقة إعلاميه كل ما أريد أن أفعله الآن هو الهرب من أمام عينيها كما فعلت هي مسبقا . وعندما أمرت الرجل بالرحيل كان هو الآخر قد تغير وغاب الملل عن تصرفاته ليحل مكانه الارتباك والخجل. حضنت الصغيرة وقبلتها فاقترب صاحبي ليضع يده فوق كتفي ويبعدني كي يقوم هو الآخر بتوديعها وشاهدته يخرج من جيبه لوح شوكلاته ويدسه في يد الفتاة الصغيرة وعندما وقف نزع قبعة (بيس بول) من رأسه وأبقاها فوق رأس الصبية ثم استدار إلي وأخذ بيدي بسرعة ليبعدني عن المكان بعدما لاحظ علامات الانهيار في عيني وما أن ابتعدنا تركت لدموعي طريقها لأني لم أستطع حبسها أكثر من هذا و وجدت صديقي يلف كتفي بذراعه ويسندني إليه بعد أن خانتني قدماي وظهر الضعف فيهما أثناء مشيي ثم همس في أذني
" إنها شموخ "
أومأت برأسي موافقة وقد استطعت أن أتمالك نفسي
" أجل أنها فعلا شموخ "
النهاية
بقلم
الكاتبة قلب الجبل
شرفوني برأيكم ونقدكم البناء